التصقت عبارة "فليأكلوا بسكويت ماداموا لا يجدون خبزاً" بـ"ماري أنطوانيت" زوجة "لويس السادس عشر" ملك فرنسا. ويتردد أنها قالتها حينما وصل لسمعها أن الطبقة العاملة متذمرة لأنها لا تجد ما تسدُّ به رمقها. إلا أن بعض مؤرخي التاريخ يُشككون في أن هذه المقولة صدرت عنها. مع أن هذا لا ينفِ أن ثورة الجياع هي الشرارة التي اندلعت على أثرها الثورة الفرنسية، والتي أدّت إلى جريان أنهار من الدماء، وسقوط آلاف مؤلفة من الضحايا، كان من ضمنهم ملك فرنسا وزوجته التي أطاحت المقصلة برأسيهما. هل الأفواه الجائعة هي المحرّك الفعلي لكل ثورات الشعوب التي وقعت على مدار التاريخ؟! إذا كان الجوع ماردا ضخما من الصعب لجم غضبه، فما العوامل الرئيسية التي خلقته؟! هل هو الفساد السياسي والمالي والإداري وتبعاته السلبية على المجتمعات، أم قلة الوعي الفكري بين الأفراد، أم انعدام المسؤولية الاجتماعية لدى المؤسسات التربوية، وتقاعس النخب الثقافية، أم كل هذه العوامل مجتمعة؟! كثيرة السلبيات التي تفوح عفونتها في أرجاء عالمنا العربي، من غياب ذمم، وانفلات أخلاقي، وانعدام أمني، وتدهور معيشي! نسمع كل يوم عن حوادث غريبة لم يكن لها وجود بأروقة مجتمعاتنا العربية حتّى الماضي القريب، تؤكد على وجود خلل ما يتفاقم يوماً بعد يوم! في مصر على سبيل المثال، تمَّ الحكم على ثلاثة متهمين بالحبس والغرامة، نتيجة قيامهم ببيع لحوم الحمير والخيول النافقة، وقد اعترفوا أنهم كانوا لا يكتفون ببيع لحومها للأسر الفقيرة، ولدكاكين الشواء المتنقلة، بل كانوا يوردونها للمطاعم الشهيرة والفنادق الكبرى! دعكم من التقلصات التي شعرتُ بها في معدتي، عند سماعي هذا الاعتراف المخيف، كوني من مرتادي الفنادق الكبرى ومحبي الأكل في المطاعم الفاخرة، متخيلة نفسي وأنا جالسة على الطاولة، واضعة ساقاً على ساق، مقلّبة ناظري في قائمة الطعام وكلّي ثقة في مصدر الطبق الذي سأتناوله! لكن حقيقة ما استوقفني وحزّّ في نفسي، تبرير المتهمين لفعلتهم الشنيعة، أنهم فعلوا ما فعلوا تضامناً مع الفقراء! بل أضافوا أنهم يشعرون براحة ضمير لأنهم قدّموا خدمات كبيرة للمعدمين، الذين لا يملكون مالاً لشراء كيلو واحد من اللحم، ببيعها لهم بثمن بخس! مصيبة كبرى أن يصل الاستهتار بآدمية الإنسان إلى هذا الحضيض! وشيء مخزٍ أن ينظر الإنسان لأخيه الإنسان بهذه النظرة الرخيصة! لكن إذا كانت أغلبية المسؤولين العرب الذين من المفترض أنهم قدوة لمجتمعاتهم، يستهترون بمطالب شعوبهم، ويصمّون آذانهم عن احتياجاتهم، ويتلاعبون بالميزانيات المقدمة لهم لتحسين أوضاع مواطنيهم، لِمَ نلوم السارقين الصغار الذين استغلوا احتياجات الناس، ودفعهم الجشع والرغبة في تحقيق الثراء السريع، إلى سلك طرق ملتوية تتنافى مع الأخلاق والدين؟! ليتَ المسؤولين في حكوماتنا العربية تؤرقهم تعاسة شعوبهم، ويسعون بالفعل لا بالقول إلى رسم السعادة على وجوه مواطنيهم، بتطهير ضمائرهم الملوثة، والكف عن تفضيل مصالحهم الخاصة على مصالح أبناء مجتمعهم، والسعي بإخلاص إلى تأسيس مدن فاضلة حقيقية. الخوف من أن نصل إلى مرحلة يائسة، نجد فيها الأسر تتخلى عن مبادئها، وتتصارع مع بعضها من أجل توفير لقمة العيش! فهل نحن بالفعل قادمون على ثورة جياع؟! لقد ظهرت البدايات في مصر، حيث قام آلاف من المصريين بقطع الطريق الدولي بين مدينتي العريش ومرسى مطروح، وأحرقوا إطارات السيارات احتجاجا على إلغاء الدولة للدقيق من بطاقات التموين! إن القضية لم تعد محصورة في غني وفقير، أو امرأة ورجل، أو طفل وشيخ، فمع موجة الغلاء التي شملت كل شيء بكافة بلدان العالم، أصبح الكل يتخبّط وسط دوّامة احتياجاته التي لا تنتهي، مما يستوجب سن تشريعات قانونية حقيقية تُشرف عليها المؤسسات القضائية في عالمنا العربي، للضرب بيد من حديد لمن تسوّل له نفسه اللعب بمقدرات أبناء مجتمعه المعيشية، في عالم أضحى "حاميها حراميها"، واختلط الغث مع الثمين! نحن بحاجة إلى بصيرة نافذة حتّى لا نقع جميعاً في قعر البئر، ولا نجد حينها حبلاً متيناً نتسلقه ليُخرجنا من هوتها! المجتمعات تحتاج بجانب لحظة حظ إلهية، ودعاء صادق من القلب، إلى سواعد مُخلصة تنتشلها من أزماتها!